لماذا ينتخب مسلمون إيطاليون اليمين المتطرف؟

120 mins read
governo - المسلمون - lega - sondaggi - centrodestra - programma

لماذا ينتخب مسلمون إيطاليون اليمين المتطرف؟

أعداد متزايدة من المسلمين ربما يصوتون لتحالف اليمين هذه المرة، وهو أمر لم يحدث من قبل

“نعم للعائلة الطبيعية، لا للوبي مجتمع الميم وأيديولوجيا الجندر. نعم للحدود الآمنة وثقافة الحياة، ولا للهجرة الجماعية والعنف الإسلامي. تحيا إيطاليا، وتحيا أوروبا للوطنيين”

هكذا هتفت “جورجا ميلوني”، رئيسة حزب “إخوان إيطاليا” اليميني والمرأة الأكثر إثارة للجدل في البلاد الآن، في يونيو/حزيران 2022. واليوم، بات “ميلوني” ربما على بعد خطوات قليلة من أن تصبح أول رئيسة وزراء في تاريخ إيطاليا، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى تصدر مرتقب لحزبها في الانتخابات المزمع إقامتها غدا 25 سبتمبر/أيلول، بحوالي 26%، كما تشير إلى أن شعبية حزبها وصلت إلى أوجها في الشهرين الأخيرين، في حين تقلصت شعبية أقرب منافسيه، الحزب الديمقراطي المنتمي إلى يسار الوسط

لطالما كانت تصريحات “ميلوني” وخطاباتها مثيرة للجدل. ففي وقت سابق، دعت السياسية البالغة من العمر 45 عاما إلى إنشاء حاجز بحري يمنع المهاجرين الأفارقة من القدوم إلى بلادها، في حين أكدت أن إيطاليا لو احتاجت إلى مهاجرين فأولى بها أن تأخذهم من فنزويلا لأنهم مسيحيون وبعضهم ذوو أصول إيطالية. وتدخل السياسيّة الإيطالية حاليا على رأس حزبها للانتخابات في إطار تحالف يميني ثلاثي يضم حزب الرابطة “ليغا نورد” بزعامة “ماتيو سالفيني”، وحزب “فورزا إيطاليا” بزعامة الملياردير العجوز “سيلفيو برلسكوني” (85 عاما)، ورغم الاختلاف بين الثلاثة في بعض الأمور التفصيلية، فإن موقفهم الحاسم من الهجرة يُعَد واحدا من أهم القضايا التي تجمعهم اليوم

شغل “سالفيني” منصبَي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية بين يونيو/حزيران 2018 وسبتمبر/أيلول 2019 في حكومة ائتلافية مع حركة النجوم الخمسة. وقد أثبت منذ منتصف العقد الماضي وحتى الآن أنه ليس فقاعة سياسية كما تصوَّر كثيرون في بداية صعوده الكبيرعام 2014، فقد استطاع الرجل الذي بدأ مساره السياسي وعمره 17 عاما فقط أن يحافظ على مكانة مميزة داخل صفوف اليمين الإيطالي، مستعينا بأساليب التسويق ومُستخدما التقنيات التكنولوجية الحديثة في جذب الجماهير، وإن كان قد فقد جزءا من شعبيته مؤخرا لصالح المرأة الصاعدة بسرعة الصاروخ “جورجا ميلوني”، التي يتحالف معها في هذه الانتخابات

يُعرف المسلمون في إيطاليا “سالفيني” معرفة جيدة، فهو الرجل الذي وعد في انتخابات 2018 بترحيل نصف مليون مهاجر غير شرعي، كما قرر إيقاف السماح ببناء مساجد جديدة حين أصبح وزيرا، وحين وقعت مذبحة المسجدين في نيوزلندا عام 2019 علَّق قائلا بأن التطرف الوحيد الذي ينبغي التنبه له هو التطرف الإسلامي. ومن ذكريات “سالفيني” المهمة التي ينساها حتى بعض معارضيه الآن أن تصريحاته الاستقطابية عام 2009 (قبل موجات المهاجرين المكثفة) لم تطل المسلمين والأجانب فحسب، بل والإيطاليين الجنوبيين كذلك، فقد دعا الرجل حينها إلى تخصيص مقاعد خاصة في مواصلات مدينة ميلان الشمالية لسكان المدينة الأصليين، علما بأن أصول حزب “ليغا نورد” الذي يتزعّمه “سالفيني” تعود بجذورها إلى فكرة انفصالية قائمة على المطالبة بانفصال الشمال الإيطالي الغني عن جنوب إيطاليا الفقير

من جهة أخرى، دعم “سالفيني” بشار الأسد وقت اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، حيث رأى أن الأسد رغم عيوبه أفضل من معارضيه من خصومه “المتطرفين المسلمين”، كما أعلن أنه سيعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وينقل السفارة من تل أبيب في حال فوزه بانتخابات 2022. علاوة على ذلك، ذكر “سالفيني” الإسلام في سياق سلبي أكثر من مرة، وقال إنه لا يتماشى مع القيم الإيطالية، وأمر بتشديد الرقابة على مراكز تجمُّع الجالية المسلمة في البلاد أثناء وجوده في السلطة إثر مشاجرة بين رجلين مُشرَّدَين في منطقة “تيرميني” قَتل فيها مسلم شخصا مسيحيا وردَّد عبارات طائفية، رغم أن سكان روما يعرفون بأن منطقة تيرميني مأوى العصابات والمشردين في الساعات الأخيرة من الليل، فلم تكن ثمّة علاقة بين الحادثة والثقافة أو الجالية الإسلامية

ومن “سالفيني” ننتقل إلى آخر أطراف التحالف، وهو “سيلفيو برلسكوني”، العجوز المخضرم الذي لم يعد قادرا على الظهور في الفعاليات الكبرى، فاكتفى بمقاطع قناته الجديدة على “تيكتوك”، إذ تفاخر في أحد المقاطع بأنه لم يبقَ في إيطاليا سوى 4 آلاف مهاجر عام 2010 أثناء رئاسته للحكومة. ويعتبر “بيرلسكوني” قضية المهاجرين غير القانونيين قنبلة موقوتة في إيطاليا، ووضع تصورا لحل أزمة الهجرة يرتكز إلى منع انتشار عمليات الإنزال، والتعاون مع دول شمال إفريقيا لإيقاف عملية الهجرة من بدايتها

وقد صرَّح “برلسكوني” عام 2018 بأن “إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، بعد رفض طلبات لجوئهم، يجب أن تكون قطعية”، والجديد الذي يؤكد عليه الآن هو تقسيم المهاجرين على الدول الأوروبية بحيث لا تتحمل إيطاليا العبء وحدها. ورغم أن تصريحات “برلسكوني” عموما تتصف بالهدوء والوسطية مقارنة بحليفيه، حيث طمأن الجالية الإسلامية عام 2018 بأنه في حال عودته إلى السلطة لن يغلق المساجد والمراكز الإسلامية، فإن له تصريحا شهيرا عام 2001 قال فيه إن الحضارة الأوروبية متفوقة على الإسلام، وهو تصريح عدل عنه وقتها وصرَّح بأنه أُسيء فهمه

لربما تجعلك المقدمة السابقة تظن أن المسلمين الإيطاليين أبعد ما يكون عن منح أصواتهم لهذا التحالف الذي لا يذكر الإسلام عادة إلا بشكل سلبي، لكن بحسب رأي المتحدث الرسمي باسم الجالية المصرية في إيطاليا “محمد يوسف”، الذي تحدث إلينا في ميدان بصفته مواطنا مسلما إيطاليا وليس بصفته الرسمية، فإن 50% من المسلمين ربما يصوتون لتحالف اليمين هذه المرة، وهو أمر لم يحدث من قبل. يدفعنا هذا إلى محاولة الاقتراب من المشهد الإيطالي أكثر، لنرى الأسباب التي تجعل اليسار في الغرب اليوم يفقد المصوتين التقليديين له، لعل هذا يساعدنا على فك جزء من شيفرة صعود اليمين في العالم

جاءت بداية العاصفة هذه المرة من الشمال. فقبل أيام قليلة من الانتخابات الإيطالية، هبَّت السويد برياح لم تكن متوقعة، إذ كشفت نتائج انتخابات الدولة، التي يُشار إليها بالبنان بوصفها واحدة من أكثر الدول الأوروبية تقدما، عن فوز معسكر اليمين على حساب اليسار، بل إن الحزب الذي تصدَّر كان الأكثر تشدا في صفوف اليمين نفسه، وهو “حزب ديمقراطيي السويد”. لطالما أشار الإيطاليون الأصغر سِنّا إلى الدول الإسكندنافية، وبالأخص النرويج والسويد، بوصفها الجنة التي يتطلعون إليها، إذ تُمثل تلك الدول نموذجا للنجاح والازدهار، ولكن ها هي أيضا تتجه يمينا. ورغم أن انتصار اليمين في السويد ليس انتصارا حاسما، ولن يؤثر كثيرا على سياسات الدولة المنفتحة نسبيا على المهاجرين، فإن انتخابات السويد مثلت ناقوس خطر لليسار في أوروبا

دفع هذا الشعور بالخطر الفيلسوف الأميركي اليساري “جيسون ستانلي” للقول بأنه بعد انتخابات السويد لن يمكننا الهرب من اليمين المتطرف بمغادرة الولايات المتحدة الأميركية إلى أوروبا، إذ يرى أستاذ الفلسفة في جامعة “ييل” أننا نواجه أزمة عالمية متمثلة في صعود فاشية مشابهة لتلك التي واجهها العالم في عشرينيات القرن الماضي. بمعنى أدق، ينظر العديد من أصحاب الهوى “التقدمي” في العالم إلى الانتخابات الإيطالية القادمة باعتبارها خطوة جديدة في طريق محاصرة الديمقراطية والقيم التقدمية، لا سيَّما إذا فاز اليمين بأغلبية عريضة، إذ يخشى اليساريون التقدميون من أن نسخة جديدة من دولة المجر ستظهر في أوروبا، بحيث تصير إيطاليا بلدا تسيطر عليه قوانين تعادي والمرأة وأصحاب البشرة الملوَّنة (غير البيض) والمثليين. كما أن تحوُّل إيطاليا إلى نظام يميني قُح يعني أن هناك ثلاثة أنظمة يمينية متشددة تقبع الآن في قلب الاتحاد الأوروبي، ويمكنها التحالف ضد قيم الاتحاد (المجر وبولندا وإيطاليا)

تخبرنا استطلاعات الرأي حتى الآن بأن تحالف ما يسمى بـ”يمين الوسط” قد يحصد 46.6% من الأصوات في مقابل 28% لما يسمى “يسار الوسط”، وكذلك يستطيع المرء من التجول في شوارع أي مدينة إيطالية طيلة الشهرين الماضيين أن يكتشف كيف استعد اليمين أكثر من اليسار لتلك الانتخابات، حتى على صعيد تنظيم الفعاليات واللوحات الإعلانية. ولذا، يشعر اليساريون بالقلق، ولا يخلو مقال لناشط أو أكاديمي إيطالي يساري تقريبا من إشارة إلى أن سياسيي اليمين ناجحون في استغلال الكوارث والأحداث السيئة، ولكن اليسار قلّما يسأل نفسه لماذا لم يستغل هو أيضا الأحداث ليزيد من شعبيته ويقترح حلولا عملية

كثيرا ما تفضح الأرقام الأيديولوجيا، وفي حين يحاول بعض اليمينيين رسم تصور يوحي بأن هناك خطرا يهدد الأمة الإيطالية بالاستبدال الكبير لها لصالح المسلمين القادمين بحرا، فإن الأرقام تُظهِر شيئا آخر، حيث تمثل المسيحية الدين الغالب بين الأجانب في إيطاليا. وبحسب أرقام مركز الأبحاث الإيطالي المستقل (CESNUR) لعام 2020، فإن 67% من سكان إيطاليا كاثوليك، و24% ملحدون، و5% مسيحيون غير كاثوليك، و4% فقط مسلمون. وفي حين أن عدد المسلمين من الأجانب يتناقص، نجد أن عددهم من المواطنين يزداد بفعل اكتساب بعضهم الجنسية الإيطالية بالوسائل القانونية، لكن في الحالتين يُعَد الفرق في الأرقام ضئيلا ولا يتناسب مع حجم دعايا بعض اليمينيين حول “الغزو الإسلامي”. ويصل عدد المسلمين من أصحاب الجنسية الإيطالية  إلى حوالي مليون وربع المليون، بزيادة حوالي 83 ألفا عن عام 2020

بشكل عام، تقع إيطاليا في مرتبة أقل من المتوسط الأوروبي فيما يتعلق بنسبة المسلمين إلى السكان. وبحسب تقرير الحرية الدينية في العالم لعام 2021 الصادر عن الخارجية الأميركية في يونيو/حزيران 2022، يواجه المسلمون في إيطاليا صعوبات في الحصول على إذن من الحكومة لبناء المساجد وتوفير مدافن مناسبة للشريعة الإسلامية، ورغم موافقة الحكومة على بعض الطلبات، فإنها ما زالت غير كافية لتلبية مطالب المسلمين الإيطاليين، ويرى بعض قادة الجالية المسلمة أن السلطات تتعنت من أجل عرقلة بناء المساجد. وبحسب التقرير نفسه، أطلق عدد من السياسيين الإيطاليين تصريحات معادية للإسلام هذا العام، وعلى رأسهم “سالفيني” الذي صرح في أغسطس/آب 2021 بأن القرآن لا يتوافق مع الديمقراطية والمدنية، كما احتوت 65% من جميع التغريدات التي ذكرت الإسلام في إيطاليا أثناء العام نفسه على محتوى سلبي ضد المسلمين، مقارنة بـ59% عام 2020

حين دخلنا مكتب الأستاذ “محمد يوسف” في حي “يونيو” بالعاصمة روما بدون موعد مسبق، وجدناه لا يمثل النمط التقليدي الذي يُنعَت به المسلمون المؤيدون لسالفيني عادةً بوصفهم علمانيين كارهين للإسلام، فقد أشعل الرجل عودين من البخور العربي، كما وجدنا بجوار مكتبه ورقة عليها بعض من أسماء الله الحسنى مع بعض الآيات القرآنية، وحين سألناه عن الورقة أجابنا بأن اسمها في العامية المصرية “وفق”، وهي تجميعة بين أسماء إلهية حسنى وآيات قرآنية، وأنك حين تتأمل فيها تنفتح لك أبواب روحانية في الملكوت، وتتجذر بداخلك مشاعر إيمانية جديدة، على حد قوله

كان “محمد يوسف” واحدا من هؤلاء المسلمين الذين ظهروا في مقطع دعائي لليمين الإيطالي فاجأ الكثيرين بدعوة الناس للتصويت لصالح حزب “ليغا نورد” بقيادة “سالفيني”، وحين أجرينا معه الحوار أكد لنا أنه سيتحدث معنا بصفته مواطنا إيطاليا مصريا مسلما، وليس بصفته المتحدث الرسمي للجالية المصرية في إيطاليا، فرأيه يعبر عن شخصه ولا يعبر عن الجالية

كان محمد، الذي يعيش في إيطاليا منذ أكثر من 20 عاما مُصوّتا دائما لليسار في كل الاستحقاقات السابقة وداعما له، لكنه فقد الإيمان به، وأخبرنا عن ملف لم نسمع به من قبل كان من أهم الأسباب التي جعلته يتجه إلى دعم اليمين هذه المرة، وهو ملف انتزاع الأطفال المسلمين من أسرهم، فقد أُخِذ أكثر من 100 طفل عربي من أسرهم العربية في إيطاليا من طرف السلطات، بسبب مشكلات بين الآباء والأبناء، وفي الكثير من الحالات حدث ذلك لأسباب واهية وفقا لـ”محمد”، حيث يبتّ في تلك المسألة الأخصائيون الاجتماعيون، وهم منتمون لليسار في ظل الحكومة الحالية

ويرى “محمد” أن سبب المشكلة وجود عوار في القانون الإيطالي للطفل، يجعل للأخصائي الاجتماعي الكلمة الأخيرة في سحب الأطفال من أسرهم، دون أخذ تقرير مقابل من الشرطة أو أي جهة أخرى. وقد أخبرنا “محمد” أنه سعى مع اثنين من الناشطين في الجاليات العربية لحل مشكلة تلك الأسر، وكان ثلاثتهم يدعمون اليسار حينئذ، لكنهم فوجئوا بأن الطرف الذي وقف معهم حقا في محاولتهم لحل الأزمة كانت امرأة يمينية اسمها “سعاد سباعي”، وهي سياسية إيطالية مولودة في المغرب، مسؤولة عن العلاقات مع الجاليات الأجنبية في حزب “ليغا نورد” بقيادة “سالفيني”، ومرشحة على قائمته لهذه الانتخابات. والواقع أن تقريب “سالفيني” لأفراد مُلوَّنين (من غير ذوي البشرة البيضاء) لم يحدث في حالة سعاد فقط، فقد نجح “توني أيوبي”، وهو نيجيري الأصل، أصبح أول نائب أسود في البرلمان الإيطالي عن طريق حزب “سالفيني”؛ ما مثل مفارقة كبيرة بأن يكون أول نائب أسود ممثلا لحزب اشتهر بمعاداة الهجرة والأجانب

بالعودة إلى الكاتب الصحافي “محمد يوسف”، يحكي الرجل أنهم حاولوا مع اليسار كي يدرج هذه المشكلة ضمن برامج عمله، لكنّ سياسيي اليسار دائما ما ردوا بعبارات تسويفية قائلين إن إيطاليا مليئة بمشكلات أكبر، في حين جاء الدعم الحقيقي من اليمين، فقد تحدثت “سعاد” مع “سالفيني”، وسرعان ما صرَّح الأخير بأنه سيعمل على لمّ شمل هذه الأسر من جديد، ثم أعدَّت “سعاد” مشروعا لتعديل قانون الطفل لحل المشكلة في حال فوزها، بل حضّرت أيضا جلسات قضائية مع الأسر المتضررة. وكشفت تلك التجربة لـ”محمد” عن أن اليسار يعطي وعودا بلا أفعال، فكثيرا ما وعد اليسار مثلا بأن يصبح هناك مقر للجالية المصرية، ولكن حتى اليوم، وبعد كل الحكومات اليسارية المتعاقبة في السنوات الماضية، لا يوجد مقر للجالية

وفيما يبدو، تثير وعود اليسار الفارغة الحنق بين صفوف مؤيديه التقليديين، حتى من خارج دائرة المسلمين، مثل “ميكيلا كوليانو”، الشاب الإيطالي البالغ من العمر 29 عاما، والمتخصص في علوم المكتبات، والموظف في شركة اقتصادية في روما؛ والذي عادةً ما كان يصوّت “كوليانو” لليسار، حتى قرَّر أنه على الأغلب سيقاطع الانتخابات القادمة بسبب غضبه من عدم تنفيذه وعوده، وقد قال “كوليانو” إن اليسار دائما ما يدرج في برامجه -مثلا- وعدا بتقنين الحشيش، لكنه يتجاهل هذا الوعد في كل مرة، بل وفي المرة الوحيدة التي وصل فيها الأمر إلى البرلمان، حدث ذلك بسبب عريضة وقّع عليها 500 ألف شخص دون أي دور لليسار. وبحسب “كوليانو”، فإن اليسار كسول منذ سنوات، ويعتمد على تخويف الناس من عودة الفاشية لا أكثر. ورغم أنه لن يصوِّت لليمين، قال “كوليانو” إن اليمين يُظهِر جدية ونشاطا، ويسعى للتغيير، بعكس اليسار المتبلد

في عام 2016، وعقب انتصار “ترامب” في الانتخابات الأميركية وما مثّله من زلزال في السياسة العالمية، كتب المُنظّر الأميركي الشهير “فرانسيس فوكوياما” مقالا لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية نبَّه فيه إلى ظاهرة غريبة، فقد حصد “ترامب” أصوات عمال النقابات المهنية الذين وعدهم بأن يستعيدوا وظائفهم من جديد، ولاحظ “فوكوياما” أن الأمر نفسه حدث في التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، وكذلك في حالة المصوتين لصالح “مارين لوبان” وحزبها في فرنسا، لقد بات الفقراء والعمال يصوتون لليمين بعد عقود اعتاد فيها آباؤهم على التصويت لليسار بشكل تقليدي

ظهرت المفارقة ذاتها في نقاش عقده مركز “كارنيجي” حول مستقبل إيطاليا، حيث كان أحد أسباب نقصان شعبية اليسار التي طرحتها المناقشة هو تركيزه في برنامجه لعام 2022 على قضايا الأقليات، حيث أتى جلّ تركيزه على ما يُسمّى بحقوق “مجتمع الميم” وحقوق أبناء المهاجرين في الحصول على الجنسية الإيطالية، بينما تجاهل بدرجة كبيرة الاقتصاد وقضاياه الأساسية. وقد تنبَّه “فوكوياما” نفسه في مقال له بمجلة “فورين أفيرز” إلى تحول كبير يحدث في اليسار الأميركي، وتكرّر مع يساريين كُثُر حول العالم بعد ذلك، إذ صرفت سياسات الهوية انتباه اليسار عن المشكلات الرئيسية والخطيرة للمجتمعات الغربية، فلم يعُد يهتم بأزمة إدمان الأفيون أو الأطفال الفقراء في الريف، ولم يقترح أي برنامج طموح للتعامل مع فقدان الناس وظائفهم نتيجة الأتمتة. ولذا، يرى “فوكوياما” أن طموح اليسار بخصوص الإصلاح الاقتصادي قد تقلَّص، واتجه إلى مشكلات الهويات والتعددية، من ثمّ بات عاجزا عن كسب صوت الرجل الأبيض البسيط من الطبقة العاملة

بحسب استطلاع أجرته شركة “إبسوس (IPSOS)” للأبحاث، ومقرها باريس، لصالح صحيفة “كوريير دِلا سيرا” الإيطالية، فإن العمال الذين سيصوتون لليمين في هذه الانتخابات أكثر من ضعف العمال الذين سيصوتون لليسار، وهي سابقة لم تحدث منذ عام 1945، فقد صار الحزب الديمقراطي (اليسار) في نظر العمال حزب إجراءات التقشف وتحرير السوق والانبطاح للقواعد الاقتصادية التي يضعها الاتحاد الأوروبي. ويرى “محمد يوسف” أن اليمين صار هو من يتحدث عن رفع المرتبات وتخفيض فواتير الكهرباء والغاز، في حين أن اليسار يقول إن تلك الوعود ستدمر ميزانية الدولة إن تمَّت، كما يرفض تخفيض رواتب أعضاء البرلمان. وهنا يذكر “محمد” نكتة شائعة في الشارع الإيطالي، وهي أن اليمينيين ينتمون لأسر غنية من الأصل، في حين أن اليساريين يدخلون البرلمان بدراجة ويخرجون بسيارة مرسيدس

في يونيو/حزيران 2022، أعلنت شركة “ديزني” إطلاق منصة للشرق الأوسط، بالتزامن مع طرح فيلم لها يتضمن قبلة مثلية بين امرأتين، ومن ثم اجتاحت العالم الإسلامي حملة للمطالبة بمقاطعة “ديزني” على ضوء ما سُرِّب من نواياها بدعم قضايا المثليين من خلال محتواها الترفيهي. ولا يختلف موقف “جورجا ميلوني” كثيرا عن الموقف الذي انتشر سريعا في شتى أنحاء العالم الإسلامي، فقد انتقدت هي الأخرى نوايا الشركة بتحويل شخصيات كارتونية شهيرة إلى شخصيات مثلية، وأكَّدت أنه لا ينبغي تقديم قضايا معقدة وجدلية من هذا القبيل لأطفال صغار، وهو رأيها أيضا بخصوص تدريس نظريات الجندر في المدارس للأطفال، حيث ترى أن أمرا كهذا ليس جزءا من الحداثة بقدر ما هو مسبب للمشكلات الاجتماعية. ونتيجة لذلك، كثيرا ما تظهر صور كاريكاتورية ساخرة لـ”ميلوني” على لافتات مظاهرات مجتمع الميم في إيطاليا، في حين أن موقف اليمين المحافظ تجاه مسألة الجندر ونشر أيديولوجيا مجتمع الميم تبقى من الأشياء التي تجذب بعض الأسر المسلمة المحافظة لصالح اليمين

من الأشياء التي تكاد تُجمع عليها تحليلات خبراء الشأن الإيطالي هي أن النظام “الديمقراطي” في إيطاليا لن يهتز لو انتصر اليمين انتصارا تاريخيا، حيث إن مؤسسات الدولة المتشعبة في إيطاليا أكثر ثباتا من أن يهزها تحالف انتخابي يميني. وبحسب تعبير الغارديان البريطانية فإن “المؤسسات الديمقراطية في إيطاليا ستبقى في مكانها”. ويتفق “محمد يوسف” الذي سيتوجه غدا للتصويت لحزب “ليغا نورد” مع هذا الأمر، ويدحض ما يسميه فزاعة اليسار، الذي يقول للناس إن اليمين لو حكم فسيعيد الفاشية ويلغي الديمقراطية ويرحّل الأجانب. ويقول “محمد” إن هناك سقفا معينا لممارسة الديمقراطية في إيطاليا لا يمكن اختراقه من أي قوة سياسية بشكل يهدد أمن المجتمع، وهو رئيس الجمهورية بالإضافة للمؤسسات الراسخة، إذ يلعب الرئيس دور رمانة الميزان في النظام السياسي الإيطالي، ويستطيع حل البرلمان، وهو نظريا من يحمي البلاد من الدكتاتورية. وإن كان “سالفيني” و”ميلوني” يمنون أنفسهم بتعديل الدستور لتعديل تلك القاعدة

وبخصوص الحديث عما يمكن أن يتعرض له الأجانب إذا فاز اليمين، يقول “محمد” إنه ليس من مصلحة أي شخص أن يهجِّر الأجانب من إيطاليا نظرا لما يمثله المهاجرون من قيمة في الناتج المحلي الإجمالي في بلد يعاني من ارتفاع متوسط عُمر سكانه. ومن ثم طرح “محمد” على مسلمي إيطاليا أن يلعبوا المباراة الانتخابية بشكل مختلف هذه المرة، بحيث يُظهِرون دعمهم لليمين ثم يتحاورون معه ويخرجون بمكاسب، لا سيَّما أن اليمين وضع على قائمة مرشحيه امرأتين مسلمتين، هما “سعاد سباعي” عن حزب “ليغا نورد” بقيادة “سالفيني”، و”سارة كيلاني” عن “إخوان إيطاليا” بقيادة “ميلوني”

يضرب “محمد” المثل بموقف “سالفيني” السلبي من القضية الفلسطينية، ويذكر أن ناشطة يسارية داعمة لفلسطين تقلدت منصبا رفيعا في وزارة الخارجية، وسرعان ما رفضت طلبات الفلسطينيين الإيطاليين بأن تدلي بتصريح فيما يخص استشهاد الصحفية “شيرين أبو عاقلة”. ولذا، يتساءل “محمد” لماذا لا ندعم اليمين والمرشحين العرب في قائمته، ونُظهر أهميتنا في نظر اليمين، وحينئذ سنكون رقما مهما في المعادلة، وبعد ذلك سيكترث لقضايانا ويفكر مرتين قبل أن يصدر تصريحا أو قرارا في شأن يخصنا حتى لا يخسر أصواتنا، “لا بد أن نعطي حتى نطلب، هذا أفضل من اليسار الذي أعطيناه أصواتنا كل هذه السنوات ولم نجنِ منه شيئا”

في الواقع، تترقب أوروبا هذه الانتخابات عن كثب وسط تخوفات كثيرة داخل الاتحاد من أن يسيطر اليمين في لحظة حاسمة من التاريخ الغربي على مجريات الأمور في بلد يُعَد مهد الحضارة الأوروبية الحديثة، حيث من المرجح أن تفرز هذه الانتخابات زعيمة يمينية نسائية هي “جورجا ميلوني” تؤثر في صناعة القرار الأوروبي وتُنشئ تحالفات قوية مع سلطويات ناشئة مثل المجر. ورغم أن بعض المسلمين الإيطاليين يرون في النتائج المتوقعة خطرا عليهم وعلى وطنهم، ينظر البعض الآخر إلى الأمر على أنه فرصة للمسلمين لا يجب تفويتها، وبين هؤلاء وهؤلاء يبدو أن اليسار يفقد يوما بعد يوم أنصاره التقليديين، ويكتفي بالحديث عن صعود اليمين والخوف من فاشية جديدة تجتاح العالم الغربي، رغم أنه ربما شارك بنفسه في صناعة هذا المشهد على صورته التي يشتكي منها اليوم

aljazeera

Lascia un commento

Your email address will not be published.

Latest from Blog