أوروبا وتحديات الشتاء المقبل..
أسابيع، بل أيام قليلة ويحل فصل الشتاء ضيفا ثقيلا على القارة الأوروبية. شتاء مختلف هذا العام يأتي بعد خريف صعب أرهق الأوروبيين، وخلال فترة حرجة تعاني منها القارة العجوز الأمرّين: مرارة الأزمة السياسية والعسكرية التي سببتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وويلات أزمة الطاقة غير المسبوقة الناتجة عن تلك الحرب والتي خلخلت أوروبا بطولها وعرضها
يقول المنظر العسكري الصيني الجنرال صن تزو “إن فن الحرب هو إخضاع العدو من دون معركة”. وهي نظرية يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحاول تطبيقها بطريقة مكشوفة على الأوروبيين لفرض أمر واقع في ما يخص حربه في أوكرانيا. طبعا من خلال الاعتماد على سلاح النفط والغاز في فصل الشتاء بالتحديد عندما تكون أوروبا بأمس الحاجة إليهما
عمليا، القادة الأوروبيون يدركون ذلك جيدا ويعلمون أن الشتاء المقبل سيكون قاسيا ومرهقا وطويلا. لذا هم حاولوا بما تيسر في الفترة الماضية الاستعداد له جيدا، خاصة وأنهم يعلمون أنه سيستنزفهم كثيرا وسيكون حاسما في معركتهم مع روسيا. غير أن استعداداتهم اصطدمت بثلاث عقبات أساسية: الأولى تمثلت بانقساماتهم الكبيرة حول الحلول المتاحة، كتثبيت سقف لسعر الغاز أو غيره من الإجراءات الأخرى. أما العقبة الثانية، فهي غياب التضامن بين دول الاتحاد، إذ اتهمت دول فقيرة كبولندا دولا غنية كألمانيا بالأنانية في تعاطيها مع هذا الموضوع والتفكير فقط بنفسها. هذا فيما تلخصت العقبة الثالثة بعدم وقوف الحلفاء المنتجين للطاقة كالنرويج والولايات المتحدة إلى جانب الأوروبيين ومحاولتهم تحقيق أكبر استفادة من هذه الأزمة عبر بيعهم الغاز لأوروبا بأربعة أضعاف ثمنه
في موازاة ذلك يمكن القول إن تخوفات قادة الاتحاد الأوروبي من الشتاء القادم لا تأتي من عبث، خاصة وأن هذا الفصل لطالما كان مسرحا مميزا ومفضلا للتغيرات الجيوسياسية المفصلية التي شهدتها أوروبا في القرنين الماضيين خلال الصراعات التاريخية مع الروس. فهناك شتاءان بارزان لا يزالان حاضرين في الوجدان الأوروبي، شتاءان غيّرا مجرى التاريخ الحديث وشهدا أفول قوى أوروبية عظمى وتغييرات جيوسياسية كبرى. الأول هو شتاء عام 1812 الذي مهد لهزيمة نابليون في حربه مع روسيا، وبالتالي لأفول إمبراطوريته. أما الشتاء الثاني فهو شتاء عام 1941 الذي كان سببا رئيسيا في هزيمة الزعيم النازي أدولف هتلر في روسيا، وطبعا في خسارة ألمانيا للحرب العالمية الثانية
وعليه تتجه الأنظار اليوم بقلق إلى أوروبا التي أصبحت رهينة لتقلبات درجات حرارة الشتاء المقبل، وذلك لمعرفة ما مدى تداعيات هذا الشتاء عليها ومن خلفه الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة. إذ يسعى الجميع حاليا لتخمين حجم التغيرات المقبلة والتي من الممكن أن تغير وجه وهوية أوروبا التي نعرفها اليوم
طبعا مهما تكن سيناريوهات الشتاء المقبل فمن المرجح أن تكون تداعياته كبيرة وعلى أكثر من مستوى، وأولها بلا شك سيكون اقتصاديا. فأوروبا المنهكة اقتصاديا نتيجة أزمة الطاقة التي سببتها الحرب الروسية على أوكرانيا ومواقف دول الاتحاد من الغاز والنفط الروسيين تعاني من نسبة تضخم عالية فاقت الـ10 في المئة وارتفاع الفاتورة الإنتاجية للسلع والخدمات بالإضافة إلى فترة ركود منتظرة. وهي عوامل ستترك أثرا بالغا في البنية الاقتصادية الأوروبية، وقد تفقد الاقتصاد الأوروبي موقعه المميز بين الاقتصادات المتقدمة، بالإضافة إلى أنها قد تهدد القوة الاقتصادية للسوق الأوروبية المشتركة التي لطالما كانت القوة الناعمة الأساسية للأوروبيين. كما أن هذه العوامل قد تؤدي إلى ضرب الاقتصاد الألماني وتهديد مكانته الأوروبية والعالمية وبالتالي فهي تهدد أوروبا بشكل جدي بفقدان عمادها الاقتصادي وضرب أكبر اقتصاد فيها
اجتماعيا، لا يبدو الوضع مختلفا كثيرا فالارتفاع الحاد في أسعار السلع والتكلفة المعيشية وبالأخص أسعار المواد الغذائية والمحروقات وفاتورة الكهرباء والتدفئة، كلها عوامل محركة للشارع الأوروبي ومن الممكن أن تؤدي إلى حركة واسعة من الاحتجاجات والإضرابات التي قد تشل أوروبا
أما على الصعيد السياسي فالتحديات والتحولات أكبر بكثير، فكل العوامل السابقة يبدو أنه ستكون لها تداعيات جمة على الحكومات الأوروبية. إذ أن انخفاض درجات حرارة فصل الشتاء بشكل كبير قد يفاقم الوضع ويؤدي إلى تساقط بعض تلك الحكومات، هذا فيما يساعد التخبط الحالي على تعزيز حضور اليمين المتطرف في الخارطة السياسية الأوروبية وذلك بسبب تزايد الرفض الشعبي لسياسات الحكومات الخاصة بهذه الأزمة وعدم قدرة تلك الحكومات على تقديم حلول تخفف من نقمة الشارع
وفي نفس الإطار يمكن القول إن الوضع السياسي العام للاتحاد الأوروبي ليس في أفضل أحواله، فالخلافات والانتقادات العلنية بين دول الاتحاد والتباين الواضح في مواجهة هذه الأزمة وظهور تكتلات وتكتلات مضادة كلها عوامل يتخوف البعض من أن تفاقمها أزمات الشتاء المقبل مما قد يؤدي إلى انفراط عقد النموذج الأوروبي الذي دخل حيز التنفيذ مع معاهدة ماستريخت في عام 1991
يقول مثل ألماني شعبي إن الصداقة الحقيقية لا تتجمد في الشتاء. وفي هذا الإطار يتوجه القادة الأوروبيون نحو الشتاء المقبل وهم يعلمون أنهم سيكونون أمام اختبار صعب ومفصلي. فهو سيظهر لهم وبشكل جلي مدى صداقة ومحبة حلفائهم لهم، والأهم أنه سيكشف للعالم أجمع حجم التضامن والصداقة الأوروبية – الأوروبية، وما مدى ارتباط كل دولة من دول الاتحاد بالوحدة الأوروبية والحلم الأوروبي
فهل ينجح الشتاء المقبل أم تنجح رهانات أوروبا