هل ميكيافيلي مغربي أيضا؟ يرجح المحلل والإعلامي زهير الواسيني هذا الأمر، بعد نتائج انتخابات 8 شتنبر 2021، وتهميشها الكامل لإسلاميّي حزب العدالة والتنمية
وفي مقال توصلت به هسبريس، أكد الكاتب المقيم في إيطاليا أن الدولة المغربية خرجت “أكثر قوة” بعد هذه المحطة، محليا وعالميا، بعد نجاح تام، نوه به، في “تغيير كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء”، وفق خلاصة عالم السياسة واتربوري الذي خبر “السياسة المغربية”
ومع تسجيله أن “العدالة والتنمية” كان “تلميذا نجيبا” في جميع التنازلات المتوقعة وغير المتوقعة، ذكر الواسيني أنه منذ وصول هذا الحزب إلى الحكومة قدم نفسه “منقذا للدولة، غافلا عن أنه كان مجرد بيدق في عملية أكبر منه؛ حيث تم تبديله حينما انتهى دوره”
وبعد هذه الانتخابات، ونتائجها، يقرأ المحلل المؤشرات التي “تدل على العودة إلى نقطة البداية، بعد التخلص من حزب لم يفهم أبدا موقعه من الإعراب: عشر سنوات عاشها متفرجا على ما تنجزه الدولة الحقيقية، والآن ترك الزمام في يد شركائه في الحكومة الذين يتم تقديمهم كعذارى العمل السياسي بالمملكة”
وهذا نص المقال:
من خلال تجربتي الشخصية أصبحت لدي قناعة بأن أغلبية الشعب الإيطالي له قدرة هائلة على التأقلم مع كل التحولات السياسية كيفما كان نوعها، بل له حدس فطري لتقييم أي صراع حول السلطة. هذه القناعة تجرني دوما إلى تكرار جملة أمازح بها أصدقائي الإيطاليين بأن مكيافيلي لا يمكنه أن يكون سوى إيطاليا؛ ففهمه العميق لقواعد اللعبة السياسية وكيفية إدارة الحكم عبر نصائحه لـ”الأمير” مازالت هي أساس أي فعل براغماتي غايته تسيير الدولة، أي دولة، بحكمة ودراية
كانت هذه قناعاتي إلى حدود الثامن من شتنبر 2021، لأكتشف أن مكيافيلي يمكنه أن يكون مغربيا كذلك؛ فالطريقة التي تمت بها الانتخابات التشريعية بالمغرب ونتائجها التي أسفرت عن تهميش حزب العدالة والتنمية تدل على أن لمكيافيلي أتباع كثر في كواليس السلطة الحقيقية في البلاد، إن لم يكن قد أصبح متجاوزا، حيث التلميذ تفوق على الأستاذ
الانتخابات الأخيرة أعطت صورة إيجابية عن المغرب خاصة في وسائل الإعلام الغربية. أغلب الأقلام في أوروبا والولايات المتحدة توقفت عند هزيمة حزب العدالة والتنمية كدليل على إمكانية هزم الإسلام السياسي عبر الاقتراع، دونما اللجوء إلى العنف لتنحيته من الساحة
هذه القراءة، حتى وإن بدت جد سطحية، حيث تكتفي بتكريس كل ما هو نمطي ساعة الحديث عن الفكر الإخواني، إلا أنها تصب في خانة رؤيا بعيدة المدى لدى الدولة العميقة التي استطاعت إدارة لحظة تاريخية صعبة (فبراير 2011) بكثير من الدهاء والخبرة، ما يفسر، بجانب معطيات أخرى، قدرتها على ضمان استمرار البلد في المسار نفسه عبر ترويض الكوادر السياسية والقيام بتنازلات شكلية إلى أن تمر العاصفة
حزب العدالة والتنمية، ومن أجل كسب رضا السلطة الحقيقية في البلاد، لم يتوان عن القيام بكل ما طلب منه، وتصرف كتلميذ نجيب تجاوز في تنازلاته كل التوقعات الممكنة، آخرها التوقيع على اتفاقية ربط العلاقات بإسرائيل التي كانت الضربة القاضية بالنسبة لهذا الحزب الذي لم يستطع حتى إسماعيل هنية إسعافه في انتكاسته هذه. فزعيم حماس قدم إلى الرباط خصيصا لدعم إخوانه في الإسلام السياسي بهدف الدفاع عن إستراتيجية يتم بناؤها منذ مدة انطلاقا من قطر، وتتحرك عبر مناورات حان الوقت لفهم خفاياها بشكل أفضل. ولكن هذا ليس موضوعنا هنا
إذا عاد المرء للخطاب الذي ألقاه عبد الإله بنكيران في الدوحة، في إطار ملتقى الجزيرة حول “الصراع والتغيير في العالم العربي”، سيرى أن رئيس الحكومة السابق كان منسجما مع فهم خاص للتحولات التي يحتاجها المغرب، مقرا بأنه لا يريد ممارسة صلاحياته الدستورية كي لا يدخل في صراع مع المؤسسة الملكية. فكل حديثه، الذي يمكن مشاهدته على يوتيوب، عبارة عن تبرير مستمر لمواقف تتحرك في جوهرها بين الشعبوية المفرطة، والتناقض الجلي بين القول والممارسة الذي تعودنا عليه من طرف أتباع الفكر الإخواني
عبد الإله بنكيران في خطابه المذكور يكرر عدم تأييده لحركة 20 فبراير التي كان أكبر مستفيد من رياحها؛ فمنذ وصول حزبه إلى رئاسة الحكومة وهو يقدم نفسه منقذا للدولة، غافلا عن أنه كان مجرد بيدق في عملية أكبر منه، حيث تم تبديله حينما انتهى دوره. من هنا وجب التنويه بدور من يحبك الخيوط بهذا الإتقان، ويناور بهذا الدهاء؛ لكي “يتغير كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء”
علينا الاعتراف، وبكل موضوعية، بأن الدولة المغربية خرجت أكثر قوة بعد هذه الانتخابات، سواء محليا أو عالميا عبر تقديم صورة لبلد مستقر، يبدو استثناء في منطقة بكاملها؛ إذ أبان أصحاب القرار عن براعة كبيرة في تجنيب المغرب ما عاينته دول أخرى من مآسٍ نتيجة سوء تدبير عاصفة الربيع العربي
هذا الاستقرار مبني على أولويات، ربما آخرها بناء ديمقراطية حقيقية وشفافة تسمح بتسيير الصراعات التي تعرفها كل المجتمعات، بشكل سلمي؛ فنحن أمام نخبة سياسية تتقمص كل الأدوار الممكنة، المؤيدة منها والمعارضة، لكي تستمر في الدفاع عن مصالح طبقة معينة، وهو ما تقوم به على أفضل وجه
في لقاء مع إحدى المجلات يعلق جون واتربوري صاحب “أمير المؤمنين. الملكية والنخبة السياسية المغربية”، على سؤال مرتبط بمدى إمكانية بناء ديمقراطية مع وجود المخزن في السلطة، فكان جوابه واضحا: “إن نظام المخزن أصبح أكثر تعقيدا مع مرور السنوات، أصبحت لديه تجربة كبيرة في التعامل مع الأمور السياسية الداخلية. إذن، هناك تغيير في المغرب، لكنه تغيير بطيء”. ويختم صاحب أحد أهم الكتب لفهم دواخل الدولة العميقة بالمملكة الشريفة بسؤال بسيط: “هل هذا ما يريده المغاربة؟
إنه السؤال الذي لا أجد له جوابا. ربما إن الظروف، والانتماء إلى طبقة من طبقات المجتمع، والوضع الاجتماعي لكل فرد على حدة؛ هو ما يحدد نوع الإجابة. وبحكم أن الأمور بخواتمها، فلنقل إنه بعد انتخابات الثامن من شتنبر كل المؤشرات تدل على العودة إلى نقطة البداية بعد التخلص من حزب لم يفهم أبدا موقعه من الإعراب: عشر سنوات عاشها متفرجا على ما تنجزه الدولة الحقيقية والآن ترك الزمام في يد شركائه في الحكومة الذين يتم تقديمهم كعذارى العمل السياسي بالمملكة
هذا إذن هو المسار الذي يطلق عليه البعض، بمن فيهم زعماء حزب العدالة والتنمية، الاستثناء المغربي. تكتيكات متكررة، وبنفس الأسلوب، منذ استقلال المغرب إلى اليوم، لتكريس دولة مركزية تلعب فيها المؤسسة الملكية الدور المحوري. وبدون الدخول في أحكام قيمة لا معنى لها، لنقل فقط هذا هو اختيار المغرب الرسمي الذي انتصر وبالضربة القاضية على أي مغرب آخر ممكن. المهم أن اللعبة أصبحت واضحة. انتهى الكلام